عنوان القصة صلعاء
بالرغم من أنها لم تكن المرةَ الأولى، إلا أنَّ بدني ما زال يقشعرُّ كلما حانت نفس اللحظة، ممتزجةً بصوت والدي يناديني: ادخلي يا جميلة، فأدخل غرفة الضيوف خافضة رأسي، أجرُّ قدميَّ حياء إلى حيث يجلس والدي لألتصق به، وأجيب باقتضاب عن أسئلة الشاب الذي جاء لخِطبتي، وما أن ألْمحَ منه علامات الرِّضا والقبول، حتى أفجِّر القنبلة فأقاطعه سائلةً: هل أخبروك بأني صلعاءُ؟ فينظر إلي متعجبًا وهو يقول: عفوًا! أبتسم بدوري؛ فقد اعتدت الموقف، ومن ثمَّ أُشيح ببصري إلى الأرض وأنا أهم بنزع شعري المستعار من على رأسي مجيبةً إياه: أنا صلعاءُ!
نفس المشهد يتكرَّر أمامي، ها هو وجهُ الشاب يسودُّ، ولسانه يتلعثم، ويداه ترتجفان توترًا، فلا يلبث إلا أن يفرَّ هاربًا، وها هو والدي يربتُ عليَّ مشفقًا، وأمي تُهرع مسرعة لمواساتي بالأحضان والكلمات، وكأنهما لم يعِيا بعدُ أنه باتت لديَّ مناعة ضد الصدمات، لقد اعتدت الأمر واستسغته وتجرعته منذ كنت صغيرة؛ فقد ولدت وكبِرت صلعاء، ولم تفلح محاولات الأطباء ولا المعالجون الشعبيون في إنبات شعري، رُبِّيت وأنا أتلقى نظرات السخرية من إخوتي، فمتى تشاجرنا نادَوْني: يا صلعاء، ومتى تمازحنا نادوني: يا صلعاء، و إذا وضعت شعرًا مستعارًا أو رباطًا على رأسي فإنهم يسحبونه ويشيرون إليَّ قائلين وهم في قمة الضحك: انظروا إليها كيف تلمع؟!
فأجيبهم بدوري: وماذا تحسَبون؟ إنها أصلية.
نعم، أسخر من حالي معهم؛ لأني أعلم نياتهم الطيبة تجاهي، وأتفهَّم أن طريقتهم هي من تخونهم في كل مرة يريدون فيها التعبير عن اهتمامهم بأمري، صحيح أنني اعتدت كل هذا ولكني مللت، مللت الانتظار والعثرات؛ فأيامي متشابهة على نفس الوتيرة، ليس لأني صلعاء؛ بل لأن من حولي يرونني كذلك.
كعادتي في كل صباح ارتديت ملابسي، ووضعت شعرًا مستعارًا على رأسي حيث إنه في جامعتي لا يعلم أحدٌ بأمر الصَّلَع الذي أعانيه، سوى رفيقتي بسمة، والتي ما إن جلستُ بجوارها في الصف حتى أمطرتني بالأسئلة عن لقاء البارحة: كيف كان؟ ماذا قال لك؟ بماذا أجبته؟ وما رأي والديك فيه؟ وقاطعتها وأنا أُخرج دفترًا من حقيبتي دون أن أنظر إليها قائلة: لقد عرف بالأمر فغادر مسرعًا.
انطفأ حماسها، وكأنما سكبتُ على رأسها دَلوًا من الماء البارد، ودون أن أراها شعَرت بنظراتها ترمقني، باحثةً عن موانئ لترسو عليها في خارطة وجهي، فاستدرت نحوها وأنا أجيب قلقها قائلة: أنا بخير.
أجابتني بسمة: لا يبدو عليك ذلك، وجهك أحمر اللون كما لو كنت قد بكيتِ لساعات.
ابتسمتُ وأجبتها: كلاَّ مطلقًا، كل ما في الأمر أن هذا الشعر يضايقني إلى حد الجنون.
فردَّتْ عليَّ قائلة: آه! الحساسية مجددًا، و لِمَ لا تستبدلينه بقبَّعة أو ربطة شعر إلى أن يتحسن حالك؟
استدرت نحوها بحركة حادَّة، وأخفضت صوتي وأنا أجيبها: ما بك؟! أتريدين أن تعرف الجامعة كلها بأنني صلعاء؟!
تنهدت "بسمة" وعقَّبت قائلة: ولكنه قدرك، وعليك أن تتعايشي معه؛ إنه مرض وابتليتِ به.
قاطعتها بسخرية قائلة: مرض! هذا فقط من وجهة نظر علمية بحتة، الأطباء فقط هم من سيصدقون هذه الكذبة، أما في عيون الآخرين، فصلَعي هو عيب في شخصي، وعبءٌ سيظل يرافقني، وتشويهٌ لصورة الفتاة، بداية من التي تملأ قصص الحكايات بشعرها الطويل الحريري، وصولاً للتي في طلبات العرسان، أتعلمين؟ لو كانوا يرونه على أنه مرض لَما ظللت أجدِّف حول نفسي في بقعة واحدة كل هذه السنوات.
أسندت "بسمة" ظهرها إلى كرسيِّها بهدوء وهي تقول: فلتجعليه مرَضًا إذًا!
رفعت حاجبي وأنا أسألها: وكيف؟
أجابتني بهدوء أكبَر وهي تقترب مني لتهمس في أذني قائلة: بسيطة، فلتدَّعي السرطان!
نظرت إليها و قد جحظت عيناي استنكارًا، و استطردت هي قائلة: ما بك ارتعبت يا جميلة؟! ولِمَ لا يا عزيزتي؟! فلتدَّعي أنك تأخذين دواءً لعلاج السرطان، و أنه أدّى لإصابتك بالصلع، عندها ستنقلب عقارب الساعة، وعِوَضًا عن السخرية التي تخشَيْنها ستحصلين على الاهتمام والحنان والامتيازات.
رددت وراءها بصوت خافت: امتيازات؟!
ابتسمت "بسمة" وأكملت قائلة: بالطبع، مرضك سيكون واسطتك عند أيِّ طالبة أو أستاذة، ومفتاحك السحري لفتح الأبواب الموصدة، وحتى المستحيلة، الامتحانات ستكون كما تريدين، و الأعذار ستقبل برَحابة صدر، وسيهبُّ أو سيهتمُّ الصغير والكبير لمساعدتك.
ظللت أرمقها لدقائق، ثم أشحْتُ ببصري عنها في صمت، لَمْ أجد ردًّا لها ولا لي، اختفت جميع الحروف والكلمات من ذاكرتي، وبقِيَت فقط كلماتها، وشعَرْت لوهلة بأن الفكرة أكبرُ من أن يتحملها عقلي، عقلي.. ذلك البلد الصغير الذي تساقطت عليه آلاف الأسئلة الثَّلجية، فجمَّدته عن التحليل والاستيعاب، أحاول جاهدةً أن أنفضها عنه فيأتي غيرها، وكأنما تتوالد في حجرات خلاياي الضيِّقة، ظللت هكذا لساعات، حتى بدأت تذوب رويدًا رويدًا، لتختفي وتتلاشى، ويبقى سؤال واحد فقط يأبى أن يغادر رأسي: ولِمَ لا؟
بعد نصيحة "بسمة" بيومين أُصبت بالتهاب في حلقي، فتغيَّبت أسبوعًا عن الجامعة، وما إن تماثلت للشفاء حتى عاد الرُّوتين إلى حياتي تمامًا كما كان، عدت لجامعتي وبدأت أنقل ما فاتني من محاضرات وواجبات، وأجريت زيارة سريعة لمكتب أستاذة "أمينة" والتي تفهَّمت سبب غيابي وسمحت لي بإعادة الامتحان، ومن ثَمَّ قمت بزيارة أخرى للأستاذة "وداد"، التي كانت مشغولة جدًّا بأوراقها، أخبرتها بأنني أريد إعادة الامتحان الذي فاتني، ومددت لها بعذري الطبي، فأجابتني دون أن تنظر إليه: عذركِ مرفوض.
أجبتها في تعجب: مرفوض؟ و لكنك حتى..
ضربتْ بكفَّيها على سطح مكتبها وقاطعتني قائلة: لو قبلت عذركِ فعليَّ قبول أعذار كثيرات غيرك، وما أعذاركنَّ في المجمل إلا واهية.
قلت لها: ولكنني كنت مريضة!
مطَّتْ شفتيها بهدوء، وحدَّقت فيَّ لوهلة ثم قالت: وماذا كان مرضك؟
أجبتها: لقد كنت أعاني التهابًا في الحلق و..
قاطعتني: أرأيتِ؟ هذا عذرٌ واهٍ، كان بإمكانك حضورُ الامتحان؛ فالتهاب الحلق ليس بالمرضِ المزمن.
قلت لها: ولكنني حقًّا كنت متعبة، ولا أستطيع أن..
قاطعتْني ثانيةً وهي تقول بصوت حادٍّ: اسمعيني جيدًا، إن لم تكوني قد تغيَّبتِ بسبب عملية أجريتها، أو حالة وفاة قريب لكِ، فلا تضيِّعي وقتي، هذان العذران الوحيدان اللَّذان قد أعيد امتحانًا بسببهما، عادت تعبث بأوراقها دون أن تكترث لأمري، فشعرت بالدِّماء تغلي في عروقي، وامتلأت حنَقًا، ولم أجد نفسي سوى انفجرت قائلة: وماذا لو أنني تغيبت بسبب خضوعي لجرعة دواء كيميائية حادَّة أنهكتني؟
رفعتْ رأسَها بهدوء، ونظرت إليَّ وكأنها تحاول أن تستشفَّني، أو تخترق أفكاري، فتجرأَّتُ بدوري ونزعت شعري وأنا أشير بأصبع السبابة نحو رأسي، وأجبتُ أسئلتها الصامتة قائلة: أنا مصابة بالسرطان.
تغيَّرت حياتي تمامًا كما قالت لي بسمة، وانقلبت رأسًا على عقب، طبعًا إلى الأحسن والأجمل، أصبحت أرتدي في الجامعة قبعة أو ربطة من القماش تُظهر جزءًا من رأسي؛ لأؤكد أمر مرضي لمن حولي، وبدأت الطالبات يسألن عنِّي، تقريبًا بشكل يومي، يساعدنني في حمل كتبي وحقيبتي، وأحيانًا يكتبن لي بحوثي وواجباتي؛ خصوصًا عندما أدّعي خضوعي لجرعة دواء مؤلمة، وتعدَّى الأمر حدود الطالبات إلى الأستاذات، فقد أعادت أستاذة "وداد" الامتحان لي، و لم تطردني أستاذة "أماني" عندما تأخَّرت عن محاضرتها كما فعلتْ مع الأخريات، بتُّ الفتاة المشهورة والمناضلة في الجامعة، وطُلبتُ للمشاركة في محاضرات وندوات حتى أطرح فيها قصَّة كفاحي ومقاومتي لمرضي، كما أنني كتبتُ القصة ذاتَها في جريدة الجامعة، نعم، لقد كذبت الكذبة وصدَّقتها، امتهنتُها وتدرَّبت عليها، بل إنني انصهرت معها، حتى بتنا شخصًا واحدًا، شعَرت بأنني وجدت أخيرًا المعجزة التي لطالما انتظرتها، وكأنَّ الحياة كلَّها ابتسمت لي فجأة، وغرَّدت فوق رأسي.
فقط مكالمة قصيرة أعادتني من الخيال لأعي الحقيقة، مكالمة مع أم بسمة.
كانت الساعة الرابعة عصرًا عندما وصلت المستشفى، سرتُ في دهاليزها أبحث عن رقم غرفة "بسمة" الذي دوَّنته على يدي من العجلة، صعِدت سلالِمَ ونزلت أخرى، حتى وجدتها، وكانت امرأة تجلس أمام باب غرفتها، فاقتربت منها وسألتها: عفوًا، هل هذه غرفة بسمة؟
رأيتُها تمسح دموعها من تحت عباءتها، ومن ثَمَّ أجابتني بصوت خنَقه البكاء: نعم، أنا والدتها، من أنت يا ابنتي؟
أجبتها: اسمي "جميلة"، أنا صديقة "بسمة" التي اتصلت اليوم لأسأل عنها.
أجابتني بالصوت ذاتِه: أهلاً بك، تفضَّلي.
أومأَتُ برأسي مودعة إياها ودخلت، وليتني ما فعلت، وجدت "بسمة" ممددة على سرير أبيض، تحيط بها الأنابيب من كل الجهات، وكأنها وقعت في شبكة عنكبوت، لونها أصفر من لون الكركم، وجسدُها متهاوٍ بشكل عجيب، تمامًا كالبالونِ الذي فرِّغ من الهواء، أراها ميتة وليست بميتة، لا حركة ولا صوت، ولكنها تتنفَّس.
سحبت كرسيًّا وجلست إلى جوارها، أحضن كفَّها بين يدي، أحلِّق في شكلها، وأعطرها بدموعي التي عصت عينَيَّ، وأبت إلا أن تسقط، فبسمة لم تكن "بسمة" التي عرفتها، أين ضِحكتها ومرَحها ونشاطها، لم تكن هي، ظللت إلى جوارها لساعتين تقريبًا، حتى أفاقت وهي تفتح جَفنيها ببطء، وتتأوَّه متألمة، ولكنها ما إن رأتني حتى أشاحت بوجهِها عني، وقالت في وهَن: إذًا عرفتِ.
أجبتُها: عندما تغيبت الأسبوع الماضي ولم تجيبي على مكالمتي، اتصلت بوالدتك وأخبرتني بأنكِ مصابة بـ..
رُبِطَ لساني، لم أستطع نطق الكلمة بالرغم من أنني اعتدت قولها عن نفسي، أصبت بالبكم، وأغلقتُ شفتَيَّ حتى عن الهمس، فأكملت عني هي قائلة: بالسرطان، الحمد الله على كل حال.
حاولت أن أتمالك نفسي ولم أستطع، فسألتها: منذ متى وأنت تعلمين بمرضك؟
أجابتني: منذ سنة.
نظرت إليها في ألم، وعدت أسالها: لماذا فعلت ذلك إذًا؟ لماذا أقنعتِني بأن أدَّعي المرض الذي تعانينه؟ لماذا جعلتِني أتلاعب بآلامك وأوجاعك؟ لماذا أنا؟ ما دمتِ مريضة منذ البداية بالسرطان، فلماذا لم تخبري الجميع بمرضك؟! أين الامتيازات التي لطالما حدَّثتني عنها؟! لماذا لم تسعَيْ خلفها؟! لو فعلت لكان الكلُّ في ملعبك، وضعتِني في الهجوم واكتفيتِ بمراقبة مباراة أنت أخبرُ الناس بكيفية الفوز بها.
قاطعتني: كفاك أسئلة، غادري فأنا متعبة.
صرخت في وجهها قائلة: لن أغادر قبل أن أحصل على أجوبتي.
أجابتني في ضيق: يكفي يا "جميلة".
أصررت وعاودت سؤالها قائلةً: لماذا "جميلة" وليست "بسمة"؟ لماذا جعلتِني أدَّعي مرضك ولم تفعلي أنتِ؟
قاطعتني في انفعال قائلة: لأنني لا أحتمل الشفقة.
بهتُّ في مكاني ورددت كلمتها: شفقة؟!
أجابتني بعد أن تنهَّدت: أتعلمين ما الفرق بيننا يا جميلة؟! لقد جعلك صلعُك انطوائيةً ووحيدة، تخشَيْن سخريَة الآخرين، وتبحثين عن الاهتمام والتقديرِ ممن حولك، كنت أشعر بكِ؛ لذا قررت أن أساعدكِ، أن أعطيكِ ما تحتاجين إليه، كنت متأكدة بأنك لن تكترثي إلى ملامح الشفقة في العيون، ولن تستمعي إلى كلمتَيْ "مسكينة وضعيفة"؛ فلطالما انتظرتِ أن تأتيك الفرصة، بأيِّ شكل كانت، لم تبحثي عنها يومًا، ولم تقدِّري النعمة التي لديك؛ لذا وقفتِ مكانَك، ونسيتِ كيف تعيشين حياتك، خفتُ عليكِ، ففكرتُ بأنكِ متى حصلتِ على هذه الامتيازات فستخرجين من بوتقةِ الأسى التي حبستِ نفسكِ فيها لأعوام، ستغادرين الدوامة وتمضين لتستمتعي بحياتك، وبعدها لن تخجلي من صلعك، حاولت فقط أن أساعدكِ حتى بما أعتبره أنا خطأ، فقط لأنني أحببتكِ كأختٍ، ورأيتُ فيكِ نفسي، ألقيتكِ في القصة التي لم أتجرأ أن أعترف بها، ودفعتك إلى طريقٍ كنت أعلم منذ البداية كم هو مؤلم وشاق، أخفيتُ عنك آلامي، فقد خفتُ من أن تعودي كما كنتِ إذا عرفتِ بمرضي، كئيبةً محطمة ومكسورة، أعلم أن ما فعلتُه كان خطأ، ولكن صدقيني ما فعلتُه كان لأجلك.
نظرتُ نحوها لدقائق ثم استجمعت نفسي وقلت لها: سأغادر الآن، لا بد أن ترتاحي.
ما إن استدرت لأغادر حتى نادتني: وماذا بعدُ يا "جميلة"؟
استدرت نحوها وابتسمت في امتنان، وأنا أجيبها: لا تقلقي عليَّ، قررتُ ألاَّ أكون صلعاءَ قلبًا وقالَبًا.
ابتسمتْ بدورها، فمضيت بهدوء، و غادرت وأنا أهمس لنفسي، لقد ولدتُ من جديد، وهذه المرَّة لن أكون صلعاء!
بالرغم من أنها لم تكن المرةَ الأولى، إلا أنَّ بدني ما زال يقشعرُّ كلما حانت نفس اللحظة، ممتزجةً بصوت والدي يناديني: ادخلي يا جميلة، فأدخل غرفة الضيوف خافضة رأسي، أجرُّ قدميَّ حياء إلى حيث يجلس والدي لألتصق به، وأجيب باقتضاب عن أسئلة الشاب الذي جاء لخِطبتي، وما أن ألْمحَ منه علامات الرِّضا والقبول، حتى أفجِّر القنبلة فأقاطعه سائلةً: هل أخبروك بأني صلعاءُ؟ فينظر إلي متعجبًا وهو يقول: عفوًا! أبتسم بدوري؛ فقد اعتدت الموقف، ومن ثمَّ أُشيح ببصري إلى الأرض وأنا أهم بنزع شعري المستعار من على رأسي مجيبةً إياه: أنا صلعاءُ!
نفس المشهد يتكرَّر أمامي، ها هو وجهُ الشاب يسودُّ، ولسانه يتلعثم، ويداه ترتجفان توترًا، فلا يلبث إلا أن يفرَّ هاربًا، وها هو والدي يربتُ عليَّ مشفقًا، وأمي تُهرع مسرعة لمواساتي بالأحضان والكلمات، وكأنهما لم يعِيا بعدُ أنه باتت لديَّ مناعة ضد الصدمات، لقد اعتدت الأمر واستسغته وتجرعته منذ كنت صغيرة؛ فقد ولدت وكبِرت صلعاء، ولم تفلح محاولات الأطباء ولا المعالجون الشعبيون في إنبات شعري، رُبِّيت وأنا أتلقى نظرات السخرية من إخوتي، فمتى تشاجرنا نادَوْني: يا صلعاء، ومتى تمازحنا نادوني: يا صلعاء، و إذا وضعت شعرًا مستعارًا أو رباطًا على رأسي فإنهم يسحبونه ويشيرون إليَّ قائلين وهم في قمة الضحك: انظروا إليها كيف تلمع؟!
فأجيبهم بدوري: وماذا تحسَبون؟ إنها أصلية.
نعم، أسخر من حالي معهم؛ لأني أعلم نياتهم الطيبة تجاهي، وأتفهَّم أن طريقتهم هي من تخونهم في كل مرة يريدون فيها التعبير عن اهتمامهم بأمري، صحيح أنني اعتدت كل هذا ولكني مللت، مللت الانتظار والعثرات؛ فأيامي متشابهة على نفس الوتيرة، ليس لأني صلعاء؛ بل لأن من حولي يرونني كذلك.
كعادتي في كل صباح ارتديت ملابسي، ووضعت شعرًا مستعارًا على رأسي حيث إنه في جامعتي لا يعلم أحدٌ بأمر الصَّلَع الذي أعانيه، سوى رفيقتي بسمة، والتي ما إن جلستُ بجوارها في الصف حتى أمطرتني بالأسئلة عن لقاء البارحة: كيف كان؟ ماذا قال لك؟ بماذا أجبته؟ وما رأي والديك فيه؟ وقاطعتها وأنا أُخرج دفترًا من حقيبتي دون أن أنظر إليها قائلة: لقد عرف بالأمر فغادر مسرعًا.
انطفأ حماسها، وكأنما سكبتُ على رأسها دَلوًا من الماء البارد، ودون أن أراها شعَرت بنظراتها ترمقني، باحثةً عن موانئ لترسو عليها في خارطة وجهي، فاستدرت نحوها وأنا أجيب قلقها قائلة: أنا بخير.
أجابتني بسمة: لا يبدو عليك ذلك، وجهك أحمر اللون كما لو كنت قد بكيتِ لساعات.
ابتسمتُ وأجبتها: كلاَّ مطلقًا، كل ما في الأمر أن هذا الشعر يضايقني إلى حد الجنون.
فردَّتْ عليَّ قائلة: آه! الحساسية مجددًا، و لِمَ لا تستبدلينه بقبَّعة أو ربطة شعر إلى أن يتحسن حالك؟
استدرت نحوها بحركة حادَّة، وأخفضت صوتي وأنا أجيبها: ما بك؟! أتريدين أن تعرف الجامعة كلها بأنني صلعاء؟!
تنهدت "بسمة" وعقَّبت قائلة: ولكنه قدرك، وعليك أن تتعايشي معه؛ إنه مرض وابتليتِ به.
قاطعتها بسخرية قائلة: مرض! هذا فقط من وجهة نظر علمية بحتة، الأطباء فقط هم من سيصدقون هذه الكذبة، أما في عيون الآخرين، فصلَعي هو عيب في شخصي، وعبءٌ سيظل يرافقني، وتشويهٌ لصورة الفتاة، بداية من التي تملأ قصص الحكايات بشعرها الطويل الحريري، وصولاً للتي في طلبات العرسان، أتعلمين؟ لو كانوا يرونه على أنه مرض لَما ظللت أجدِّف حول نفسي في بقعة واحدة كل هذه السنوات.
أسندت "بسمة" ظهرها إلى كرسيِّها بهدوء وهي تقول: فلتجعليه مرَضًا إذًا!
رفعت حاجبي وأنا أسألها: وكيف؟
أجابتني بهدوء أكبَر وهي تقترب مني لتهمس في أذني قائلة: بسيطة، فلتدَّعي السرطان!
نظرت إليها و قد جحظت عيناي استنكارًا، و استطردت هي قائلة: ما بك ارتعبت يا جميلة؟! ولِمَ لا يا عزيزتي؟! فلتدَّعي أنك تأخذين دواءً لعلاج السرطان، و أنه أدّى لإصابتك بالصلع، عندها ستنقلب عقارب الساعة، وعِوَضًا عن السخرية التي تخشَيْنها ستحصلين على الاهتمام والحنان والامتيازات.
رددت وراءها بصوت خافت: امتيازات؟!
ابتسمت "بسمة" وأكملت قائلة: بالطبع، مرضك سيكون واسطتك عند أيِّ طالبة أو أستاذة، ومفتاحك السحري لفتح الأبواب الموصدة، وحتى المستحيلة، الامتحانات ستكون كما تريدين، و الأعذار ستقبل برَحابة صدر، وسيهبُّ أو سيهتمُّ الصغير والكبير لمساعدتك.
ظللت أرمقها لدقائق، ثم أشحْتُ ببصري عنها في صمت، لَمْ أجد ردًّا لها ولا لي، اختفت جميع الحروف والكلمات من ذاكرتي، وبقِيَت فقط كلماتها، وشعَرْت لوهلة بأن الفكرة أكبرُ من أن يتحملها عقلي، عقلي.. ذلك البلد الصغير الذي تساقطت عليه آلاف الأسئلة الثَّلجية، فجمَّدته عن التحليل والاستيعاب، أحاول جاهدةً أن أنفضها عنه فيأتي غيرها، وكأنما تتوالد في حجرات خلاياي الضيِّقة، ظللت هكذا لساعات، حتى بدأت تذوب رويدًا رويدًا، لتختفي وتتلاشى، ويبقى سؤال واحد فقط يأبى أن يغادر رأسي: ولِمَ لا؟
بعد نصيحة "بسمة" بيومين أُصبت بالتهاب في حلقي، فتغيَّبت أسبوعًا عن الجامعة، وما إن تماثلت للشفاء حتى عاد الرُّوتين إلى حياتي تمامًا كما كان، عدت لجامعتي وبدأت أنقل ما فاتني من محاضرات وواجبات، وأجريت زيارة سريعة لمكتب أستاذة "أمينة" والتي تفهَّمت سبب غيابي وسمحت لي بإعادة الامتحان، ومن ثَمَّ قمت بزيارة أخرى للأستاذة "وداد"، التي كانت مشغولة جدًّا بأوراقها، أخبرتها بأنني أريد إعادة الامتحان الذي فاتني، ومددت لها بعذري الطبي، فأجابتني دون أن تنظر إليه: عذركِ مرفوض.
أجبتها في تعجب: مرفوض؟ و لكنك حتى..
ضربتْ بكفَّيها على سطح مكتبها وقاطعتني قائلة: لو قبلت عذركِ فعليَّ قبول أعذار كثيرات غيرك، وما أعذاركنَّ في المجمل إلا واهية.
قلت لها: ولكنني كنت مريضة!
مطَّتْ شفتيها بهدوء، وحدَّقت فيَّ لوهلة ثم قالت: وماذا كان مرضك؟
أجبتها: لقد كنت أعاني التهابًا في الحلق و..
قاطعتني: أرأيتِ؟ هذا عذرٌ واهٍ، كان بإمكانك حضورُ الامتحان؛ فالتهاب الحلق ليس بالمرضِ المزمن.
قلت لها: ولكنني حقًّا كنت متعبة، ولا أستطيع أن..
قاطعتْني ثانيةً وهي تقول بصوت حادٍّ: اسمعيني جيدًا، إن لم تكوني قد تغيَّبتِ بسبب عملية أجريتها، أو حالة وفاة قريب لكِ، فلا تضيِّعي وقتي، هذان العذران الوحيدان اللَّذان قد أعيد امتحانًا بسببهما، عادت تعبث بأوراقها دون أن تكترث لأمري، فشعرت بالدِّماء تغلي في عروقي، وامتلأت حنَقًا، ولم أجد نفسي سوى انفجرت قائلة: وماذا لو أنني تغيبت بسبب خضوعي لجرعة دواء كيميائية حادَّة أنهكتني؟
رفعتْ رأسَها بهدوء، ونظرت إليَّ وكأنها تحاول أن تستشفَّني، أو تخترق أفكاري، فتجرأَّتُ بدوري ونزعت شعري وأنا أشير بأصبع السبابة نحو رأسي، وأجبتُ أسئلتها الصامتة قائلة: أنا مصابة بالسرطان.
تغيَّرت حياتي تمامًا كما قالت لي بسمة، وانقلبت رأسًا على عقب، طبعًا إلى الأحسن والأجمل، أصبحت أرتدي في الجامعة قبعة أو ربطة من القماش تُظهر جزءًا من رأسي؛ لأؤكد أمر مرضي لمن حولي، وبدأت الطالبات يسألن عنِّي، تقريبًا بشكل يومي، يساعدنني في حمل كتبي وحقيبتي، وأحيانًا يكتبن لي بحوثي وواجباتي؛ خصوصًا عندما أدّعي خضوعي لجرعة دواء مؤلمة، وتعدَّى الأمر حدود الطالبات إلى الأستاذات، فقد أعادت أستاذة "وداد" الامتحان لي، و لم تطردني أستاذة "أماني" عندما تأخَّرت عن محاضرتها كما فعلتْ مع الأخريات، بتُّ الفتاة المشهورة والمناضلة في الجامعة، وطُلبتُ للمشاركة في محاضرات وندوات حتى أطرح فيها قصَّة كفاحي ومقاومتي لمرضي، كما أنني كتبتُ القصة ذاتَها في جريدة الجامعة، نعم، لقد كذبت الكذبة وصدَّقتها، امتهنتُها وتدرَّبت عليها، بل إنني انصهرت معها، حتى بتنا شخصًا واحدًا، شعَرت بأنني وجدت أخيرًا المعجزة التي لطالما انتظرتها، وكأنَّ الحياة كلَّها ابتسمت لي فجأة، وغرَّدت فوق رأسي.
فقط مكالمة قصيرة أعادتني من الخيال لأعي الحقيقة، مكالمة مع أم بسمة.
كانت الساعة الرابعة عصرًا عندما وصلت المستشفى، سرتُ في دهاليزها أبحث عن رقم غرفة "بسمة" الذي دوَّنته على يدي من العجلة، صعِدت سلالِمَ ونزلت أخرى، حتى وجدتها، وكانت امرأة تجلس أمام باب غرفتها، فاقتربت منها وسألتها: عفوًا، هل هذه غرفة بسمة؟
رأيتُها تمسح دموعها من تحت عباءتها، ومن ثَمَّ أجابتني بصوت خنَقه البكاء: نعم، أنا والدتها، من أنت يا ابنتي؟
أجبتها: اسمي "جميلة"، أنا صديقة "بسمة" التي اتصلت اليوم لأسأل عنها.
أجابتني بالصوت ذاتِه: أهلاً بك، تفضَّلي.
أومأَتُ برأسي مودعة إياها ودخلت، وليتني ما فعلت، وجدت "بسمة" ممددة على سرير أبيض، تحيط بها الأنابيب من كل الجهات، وكأنها وقعت في شبكة عنكبوت، لونها أصفر من لون الكركم، وجسدُها متهاوٍ بشكل عجيب، تمامًا كالبالونِ الذي فرِّغ من الهواء، أراها ميتة وليست بميتة، لا حركة ولا صوت، ولكنها تتنفَّس.
سحبت كرسيًّا وجلست إلى جوارها، أحضن كفَّها بين يدي، أحلِّق في شكلها، وأعطرها بدموعي التي عصت عينَيَّ، وأبت إلا أن تسقط، فبسمة لم تكن "بسمة" التي عرفتها، أين ضِحكتها ومرَحها ونشاطها، لم تكن هي، ظللت إلى جوارها لساعتين تقريبًا، حتى أفاقت وهي تفتح جَفنيها ببطء، وتتأوَّه متألمة، ولكنها ما إن رأتني حتى أشاحت بوجهِها عني، وقالت في وهَن: إذًا عرفتِ.
أجبتُها: عندما تغيبت الأسبوع الماضي ولم تجيبي على مكالمتي، اتصلت بوالدتك وأخبرتني بأنكِ مصابة بـ..
رُبِطَ لساني، لم أستطع نطق الكلمة بالرغم من أنني اعتدت قولها عن نفسي، أصبت بالبكم، وأغلقتُ شفتَيَّ حتى عن الهمس، فأكملت عني هي قائلة: بالسرطان، الحمد الله على كل حال.
حاولت أن أتمالك نفسي ولم أستطع، فسألتها: منذ متى وأنت تعلمين بمرضك؟
أجابتني: منذ سنة.
نظرت إليها في ألم، وعدت أسالها: لماذا فعلت ذلك إذًا؟ لماذا أقنعتِني بأن أدَّعي المرض الذي تعانينه؟ لماذا جعلتِني أتلاعب بآلامك وأوجاعك؟ لماذا أنا؟ ما دمتِ مريضة منذ البداية بالسرطان، فلماذا لم تخبري الجميع بمرضك؟! أين الامتيازات التي لطالما حدَّثتني عنها؟! لماذا لم تسعَيْ خلفها؟! لو فعلت لكان الكلُّ في ملعبك، وضعتِني في الهجوم واكتفيتِ بمراقبة مباراة أنت أخبرُ الناس بكيفية الفوز بها.
قاطعتني: كفاك أسئلة، غادري فأنا متعبة.
صرخت في وجهها قائلة: لن أغادر قبل أن أحصل على أجوبتي.
أجابتني في ضيق: يكفي يا "جميلة".
أصررت وعاودت سؤالها قائلةً: لماذا "جميلة" وليست "بسمة"؟ لماذا جعلتِني أدَّعي مرضك ولم تفعلي أنتِ؟
قاطعتني في انفعال قائلة: لأنني لا أحتمل الشفقة.
بهتُّ في مكاني ورددت كلمتها: شفقة؟!
أجابتني بعد أن تنهَّدت: أتعلمين ما الفرق بيننا يا جميلة؟! لقد جعلك صلعُك انطوائيةً ووحيدة، تخشَيْن سخريَة الآخرين، وتبحثين عن الاهتمام والتقديرِ ممن حولك، كنت أشعر بكِ؛ لذا قررت أن أساعدكِ، أن أعطيكِ ما تحتاجين إليه، كنت متأكدة بأنك لن تكترثي إلى ملامح الشفقة في العيون، ولن تستمعي إلى كلمتَيْ "مسكينة وضعيفة"؛ فلطالما انتظرتِ أن تأتيك الفرصة، بأيِّ شكل كانت، لم تبحثي عنها يومًا، ولم تقدِّري النعمة التي لديك؛ لذا وقفتِ مكانَك، ونسيتِ كيف تعيشين حياتك، خفتُ عليكِ، ففكرتُ بأنكِ متى حصلتِ على هذه الامتيازات فستخرجين من بوتقةِ الأسى التي حبستِ نفسكِ فيها لأعوام، ستغادرين الدوامة وتمضين لتستمتعي بحياتك، وبعدها لن تخجلي من صلعك، حاولت فقط أن أساعدكِ حتى بما أعتبره أنا خطأ، فقط لأنني أحببتكِ كأختٍ، ورأيتُ فيكِ نفسي، ألقيتكِ في القصة التي لم أتجرأ أن أعترف بها، ودفعتك إلى طريقٍ كنت أعلم منذ البداية كم هو مؤلم وشاق، أخفيتُ عنك آلامي، فقد خفتُ من أن تعودي كما كنتِ إذا عرفتِ بمرضي، كئيبةً محطمة ومكسورة، أعلم أن ما فعلتُه كان خطأ، ولكن صدقيني ما فعلتُه كان لأجلك.
نظرتُ نحوها لدقائق ثم استجمعت نفسي وقلت لها: سأغادر الآن، لا بد أن ترتاحي.
ما إن استدرت لأغادر حتى نادتني: وماذا بعدُ يا "جميلة"؟
استدرت نحوها وابتسمت في امتنان، وأنا أجيبها: لا تقلقي عليَّ، قررتُ ألاَّ أكون صلعاءَ قلبًا وقالَبًا.
ابتسمتْ بدورها، فمضيت بهدوء، و غادرت وأنا أهمس لنفسي، لقد ولدتُ من جديد، وهذه المرَّة لن أكون صلعاء!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق