الجمعة، 28 فبراير 2014

الخط العربي.. سيمفونية الفن الجميل …

هل يمكن اتهام الحاسوب بأنه سيقضي علي فن الخط العربي ويجمده ويوقفه عند حدود معينة باعتبار أن الحاسوب يحتفظ بأشكال متنوعة من الخطوط يمكن استخدامها في أي وقت بسهولة ويسر دون اللجوء إلى الخطاط؟

أم أن الحاسوب سيكون عاملاً مساعداً في تطوير الخط العربي والارتقاء به إلى آفاق أعلى، وتحريره من جمود القوالب والأشكال التقليدية؟



ربما حدث هذا أو ذاك، لكن المؤكد أن فن الخط العربي لن يموت، لأنه فن متميز ينطلق من حالات نفسية وشعورية، عبر عنها الفنان العربي بدقة وإتقان ·· ولذلك كتبت الحياة لهذا الفن، ونما وازدهر في ظل الدولة الإسلامية.




والخط العربي ليس مجرد كلمات، وعبارات، وأشكال صماء جوفاء … تكتب كيفما اتفق، أو تعتمد على الجهد الذاتي للخطاط أو الاجتهاد الشخصي لكل صاحب خط جميل، بل الأمر أكبر من ذلك بكثير.



ومن هنا، رسخت أقدام هذا الفن بين الفنون التشكيلية الحديثة أو بالأحرى فإن هذه الفنون من رسم ونحت وغيرهما هي التي تسلقت كاهل الزخارف الخطية العربية الأصلية، وانبثقت منها، أو بسببها، وأصبح الخطاط المبدع فناناً حقيقياً، لا يقل عن غيره من الفنانين التشكيليين، الذين نتحدث عنهم بانبهار، ونقتني لوحاتهم باعتزاز.




لكن تلك الزخارف كان لها شأن كبير، وأهمية خاصة في ظل الإسلام بفضل القرآن الكريم، إذ أبدع الخطاطون في كتابة آياته على شكل زخارف فنية لتوضع داخل المساجد، وقصور الخلفاء والأمراء، ودواوين الدولة … وكان ذلك هو البديل الطبيعي لتلك الصور التي توجد في الكنائس، والمعابد.



ويروي أن سليمان بن وهب قد كتب كتاباً (رسالة) إلى ملك الروم، في عهد الخليفة المعتمد العباسي فقال ملك الروم: (ما رأيت شيئاً أحسن من هذا الشكل، وما أحسدهم على شيء حسدي لهم على جمال حروفهم)، وملك الروم هذا لم يكن يقرأ العربية، وإنما راقه خطها باعتداله وهندسته.




شهادات



وفي هذا الصدد يقول المؤرخ المستشرق الإنكليزي (أرنولد توينبي): (لقد انطلق الخط العربي، الذي كتب به القرآن غازياً ومعلماً مع الجيوش الفاتحة إلى الممالك المجاورة البعيدة، وأينما حل أباد خطوط الأمم المغلوبة، إن هذا العالم الإسلامي الذي امتد من بلاد ما وراء النهرين في تركستان شرقاً إلى المغرب الأقصى بشمالي أفريقيا غرباً، قد أنجب عدداً لا يحصي من أهل هذا الفن الخالدين الذين تركوا علي صفحات العصور ما حافظ على الطابع الإسلامي في هذه الرقعة الفسيحة من المعمورة).



إن الحرف العربي -بشهادة المؤرخين والمستشرقين- هو أجمل حروف لغات الدنيا! ثم هو -إلى جانب ذلك- حرف اختزالي، وفي الاختزال وفر في الوقت والمساحة معاً، هذا علاوة على ما لدى الحرف العربي من قابلية المد، والمط، والاستمداد والاستدارة والرجع بينما يكتب الحرف اللاتيني بتمامه، فالكتابة العربية فيها حركات مثل الفتحة والضمة والكسرة والحركة – قطعاً- أجزل من الحرف، فلو أردنا – مثلاً – أن نكتب كلمة (قَلَمُ) بالحرف اللاتيني، فلا مفر عن استعمال ثمانية أو سبعة حروف لاتينية، بدلاً من ثلاثة حروف عربية!




ونذكر – في هذا الصدد – أن المستشرق (ريتر) أستاذ اللغات الشرقية في جامعة استانبول وهو من الخبراء الذين حاضروا في العهدين العثماني والكمالي، قال: (إن الطلبة قبل الانقلاب الأخير في تركيا، كانوا يكتبون ما أتلو عليهم بسرعة فائقة، لأن الحرف العربي اختزالي بطبيعته … أما اليوم فإن الطلاب يكتبون بالحرف اللاتيني، ولذلك فهم لا يفتأون يطلبون إلى أن أعيد عليهم العبارات مراراً إنهم معذورون – ولا شك – فيما يطلبون لأن الكتابة اللاتينية لا اختزال فيها، فلابد من كتابة الحروف بتمامها أما الكتابة العربية، فهي أسهل كتابات العالم، وأوضحها فمن العبث إجهاد النفس في ابتكار طريقة جديدة لتسهيل السهل، وتوضيح الواضح).




سيمفونية خطية



إن العرب بشهادة المستشرقين وكبار الفنانين، كانوا سادة التزيين الخطي دون منازع يقول (جان جاك لوفيك) في كتابه (التصوير الزيتي الإسلامي والهندي): (لقد كان الفنان العربي يملك – أكثر من فناني الأمم القديمة – فن كتابة السيمفونية بالخطوط)، لذلك كان من الطبيعي أن تتنوع أشكال الخط الكوفي لتزدان بها المصاحف، والأفاريز التي زانت جدران المساجد، فكان الخط الكوفي المربع الهندسي الشكل، والخط الكوفي المورق ذو الزخارف النباتية، والكوفي المجدول، والكوفي المترابط المعقد … الخ، وما يقال عن الخط الكوفي يمكن أن يقال عن خطوط الثلث والفارسي، والديواني، والطغراء وذلك في تنوع أشكالها المستخدمة في الكتابة والتزيين في نفس الوقت.






ان الخطاط العبقري يري في الحرف ما لا يراه الخطاط العادي، إذ أنه يزاوج بين الحروف وأعضاء الجسم البشري، فالألف في لوحاته هي قوام حسناء، وقوس حرف العين هو تخطيط حاجب … فيضفي بذلك الروح والحركة على الحرف وهذا هو سر الإعجاز.



وفي هذا الصدد فإن الخط يعطي إحساسا للفنان – بعد تجويده – يبعث على الارتياح النفسي، وبالتالي يؤثر في سلوك الخطاط بما يجعله قدوة حسنة، ومثلاً طيباً للآخرين. كما أن القارئ، أو المتأمل للعمل الفني الخطي، إنما يتلمس بدوره ذلك السلوك الحسن، ويستخلص العبرة أيضاً ·



كما يذكر الخطاط (عماد حنفي): (أن لكل إنسان هواية يفرغ فيها طاقاته الكامنة فإما أن يصرف الإنسان نشاطاته فيما يخدمه، ويخدم مجتمعه ·· أو أن يبدد هذه الطاقات فيما لا يفيد، بل بما يعود بالضرر عليه وعلى مجتمعه فمن الطاقات المفيدة للفرد وللمجتمع أن يتجه الإنسان إلى فن راق جميل كالفنون التشكيلية، وعلى رأسها فن الخط العربي؛ ذلك الفن الروحاني الذي يسمو بالفرد، وأخلاقه، وسلوكه، وتصرفاته إلى مستوي عال، لاتصاله بنماذج أغلبها يدور حول الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة، وأبيات الشعر والحكمة … ففائدة الخط فائدة مزدوجة فهي فنية من ناحية، وهي – من ناحية أخرى – تقويمية تربوية).




فن الحروف



إن علامات الكتابة العربية (أشكال الحروف) لا تحاول أن تعني شيئاً فحسب، وإنما تريد هي الأخرى أن تكون شيئاً، فهذا هو هدفها، وغايتها، ومعناها الدفين، فهذه العلامات لا تؤدي مجرد وظيفة المقابل الصوتي في اللغة فقط، وإنما هي أعمال فنية في حد ذاتها.



والخط يحمل مضموناً ملزماً لا يجوز الحياد عنه، وهذا الفن يستطيع أن يعبر عن أرفع وأعمق ما يهز قلب الإنسان من فرح، أو حزن، أو ضعف أو ما يجوب الطبيعة بين الأرض والسماء من أعلى الأصوات حتى أخفتها، إنه سحر الحياة المباشر، ذلك السحر الذي يسعدنا به الخطاط بأنه محاولة بلوغ الموضوعية عن طريق الذاتية، كما أن خطوط الكتابة، من حيث هي (أشكال مجازية) مرجعها المضمون الذي تنطوي عليه هذه الخطوط، فالخط انطباعي قبل أن يكون تعبيرياً، وتأليف موسيقي قبل أن يكون وصفياً ·


وقد استطاع الكاتب المجرد المزخرف أن يبتكر صوراً شتي للخط العربي وزخرفته، واستطاع أن يستخرج منها أنماطاً زخرفية حسنة الإبداع من ذهنه الخلاق، وقد ظهر ذلك جلياً في الخط الكوفي اليابس، وفي غيره من الخطوط اللينة الأخرى، وقد غالي الخطاط الفنان العربي، وأسرف في الزخرفة إلى حد التعقيد أحياناً.



وعلى الرغم من ذلك، فالحروف العربية لها حيوية شديدة ناشئة عن مطاوعتها، واستدارتها، وبناءها جميعاً على أصل هندسي ثابت، وقاعدة رياضية معروفة، فأصل الحروف العربية (الألف) التي هي خط مستقيم، جعلوه قطر الدائرة، أما بقية الحروف فهي أجزاء من الدائرة المحيطة بهذا القطر، ومنسوبة إليه والحروف كلها، بأجزائها وكلياتها، مردودة إلي نسبة ثابتة، عرفت بالنسبة الفاضلة، التي ابتدعها الوزير (ابن مقلة)، وقد نهج على نهجه في هذا المجال كل من جاء بعده من مشاهير الخطاطين من أمثال (ابن البواب: علي بن هلال) و(ياقوت المستعصمي) قبلة الخطاطين.




وليس هناك أمة من الأمم قد تداولت الكتابة بهذه العناية، لتجعل منها فناً دقيقاً، مفصل القواعد، ثابت الأركان والأسس، مقرر الضوابط مثل أمة العرب.




وقد قامت في لبنان في أوائل السبعينيات حركة تهدف إلي وأد اللغة العربية الفصحى، وإحلال اللهجة العامية محلها، كما كانت تهدف إلى إلغاء الحرف العربي كتابة وطباعة، والاستعاضة عنه بالحروف اللاتينية، إلا أن هذه الحركة ما لبثت أن خفت حدتها وطغت عليها الأحداث، فانطوت صفحتها، كما سبق أن أثار هذا الموضوع (أحمد لطفي السيد) في مصر عام 1944م! وتمت مناقشته في مجمع فؤاد الأول للغة العربية، وانتهى الأمر بفشله وعدم الأخذ به، وظل حرفنا العربي الجميل علي قيد الحياة سليماً معافى … تخطه الأيدي، وتضربه الآلات الكاتبة والحاسوب، وتنشره المطابع صحفاً ومجلات، وكتباً ولوحات بالغة الروعة.




وفي كتابة (نشأة الخط العربي) يذكر محمود شكر الجبوري: (لقد وصفت الصور الآدمية بأنها لغة الفنون الأوروبية ونحن لا نستطيع أن نفهم لغة الفن الإسلامي، ولا يمكن أن نتذوق جمالها الفني إلا إذا أدركنا الفكرة الكامنة وراءها، الفكرة التي آمن بها الفنان المسلم إيماناً عميقاً، فأوحت إليه بهذه الأنواع الزخرفية البديعة … إذ لماذا يصور الوحدات الزخرفية كما هي في الطبيعة ما دامت هذه الصور ستزول يوماً ما؟ لماذا لا يعبث بها، ويعطيها – خلال عبثة بها – صوراً جديدة، ويكون من أجزائها رسماً يخضعه لأصول الجمال الفني؟ أسئلة شتى دارت في رأس الفنان المسلم ليخرج منها باتجاه جديد تماماً هو ذلك الذي نشهده في الأرابسك)، وأولئك الذين ظنوا أن هذا التنسيق، والتحوير، والبعد عن الطبيعة في رسم العناصر الزخرفية في الأرابسك، إنما هي ناتجة عن ضعف في قوة الملاحظة عند الفنان المسلم، أو عن عجز في قدرته علي الرسم الصحيح مخطئون جداً في ظنهم ذلك إنهم في الحقيقة لم يفهموا فلسفة الفن الإسلامي واتجاهات الفنان فيه إن رسالته هي أن يخفف عنا بعضنا من متاعب الحياة، فيكون لنا مهرباً نلجأ إليه كلما أثقلت كواهلنا أعباء السعي وراء لقمة العيش، فينقلنا بألوانه، وأشكاله، وزخارفه، وأنغامه إلي عالم السحر والجمال، إلى عالم ننسي فيه همومنا، ونستمتع في ظله بالهدوء، وبالنشوة، وبالغبطة، والانشراح).




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق